ضعفُ العمل النقابي.. هل هو تفهّمٌ للحكومة أم غِيابُ ثقةٍ في النقابات؟
نشر في المساء يوم 06 - 05 - 2014
عبد الرحيم العلام
*مهتم بالعمل النقابي وباحث في العلوم السياسية
في المناسبات القليلة التي خرجت فيها بعض
المركزيات النقابية للتظاهر في الشارع العام ضد السياسات الحكومية، ظهرت
خرجاتها وكأنها دعم للحكومة وليست ضدها، ليس لأن هذه المركزيات هدفت إلى
هذه الغاية أو رفعت شعارات مساندة للفعل الحكومي، بل لأن الحكومة اعتبرت أن
عدد الذين استجابوا لدعوات الاحتجاج ضدها لم يكن كافيا لكي يقضّ مضجعها أو
يدفعها إلى تغيير سلوكها تجاه الطبقة العاملة. وهكذا برزت مصفوفة من
التصريحات الرسمية، تقول إن العمال والموظفين يضعون ثقتهم في الحكومة
ويتفهّمون الإجراءات التي اتخذتها. ودليل أصحاب تصريحات مثل هذه يتمثّل في
أن الآلاف المعدودة التي تحتج ضد الحكومة لا يمكنها أن تدّعي تمثيل ما
يقارب مليون موظّف عمومي وأكثر من 4 ملايين عامل بالقطاع الخاص. وفي
المقابل، تستمر النقابات في إنكار الواقع، وحشد جميع المبرّرات لكي تقول
إنها لاتزال في قوتها، وإنها تكتسب مصداقية متزايدة لدى قواعدها، وإن
التشويش الحكومي هو الذي يمنع ملايين العمال من مساندتها.
غير أن هناك "اللامفكر فيه" والذي تحاول
كل الأطراف (الحكومة والنقابات) عدم التعرّض له في تصريحاتها، وهو الجانب
المتصل بمصداقية الحكومة والنقابات معا؛ فهل، فعلا، لا تساند الطبقة
العاملة النقابات لأنها تتفهّم القرارات الرسمية؟ وهل النقابات المغربية
الحالية مؤهّلة لقيادة العمال في مسيرتهم النضالية؟ أم إن هناك جوانب غير
مضاءة في هذا المجال؟
لقد كتبنا العديد من المقالات حول مدى مصداقية الحكومة، وخلصنا فيها إلى مختلف جوانب النقص والسلبية المصاحِبة للعمل الحكومي. ولأن المناسبة شرط، فإننا نغتنم فرصة اليوم العالمي للعمال، لكي نعيد طرح مجموعة من الملاحظات حول أزمة العمل النقابي في المغرب، لكي نسائل الواقع النقابي حول قدرته التأطيرية ومدى إسهامه في التصدي للعجز الحكومي، أي أننا بصدد نقد ذاتي ينصبُّ على الهيكلية النقابية والمصداقية التي ينبغي أن تتوافر في المركزيات، حتى نتبيّن ما إذا كانت النقابات تتفهّم الإجراءات الحكومية أم إنها لا تثق في المركزيات النقابية التي تمثلها.
إن العودة إلى مناقشة ما يمكن وصفه ب"أزمة العمل النقابي" صادرة عن الاعتقاد الرّاسخ المتمثّل في أن ترهّل الدولة (الدولة بما هي كيان منفصل عن النظام السياسي) وانحطاط الجهاز البيروقراطي وضعف الفعل النقابي والسياسي والحقوقي... لن يفيد أيَّ إصلاحٍ ديمقراطيّ أو عملية سياسية أو مجتمعية؛ فالتغيير الحقيقي لا يمكن أن يَنتُجَ عن فعل نقابيّ غير مُمَأسس على ثقافة نقابية، والإصلاح المجتمعي لا يمكن أن ينهَض به مواطنٌ لا يقوم بمهامه وفق ما تقتضيه ثقافة المواطنة.
لا يختلف اثنان حول أهمية العمل النقابي باعتباره آلية أساسية في النضال السياسي والاجتماعي، وأيضا باعتباره رافعة للاحتجاج المدني المدافع عن قضايا الفئات الاجتماعية المختلفة. غير أن الاتفاق المبدئي حول هذه الأهمية لا يعفينا من التأشير على أن العمل النقابي إذا لم تتوفر شروطه ومفرداته الأساسية فقد يصير إلى عكس الأهداف النبيلة التي يقوم عليها؛ فالكثير من النقابات لا تعكس تطلعات الفئات الشعبية التي تمثلها، والكثير منها منخرطٌ في عمليات "تسييس" مفرط للعمل النضالي في سياق توازنات السلطة والقوى التمثيلية. وسنسعى هنا، وبشكل مختصر، إلى التعبير عن موقف مخالف لمختلف المواقف "الرومانسية" تجاه العمل النقابي.
والفرضية التي يتأسس عليها البناء الحجاجي هنا، أن الموقف والفعل النقابيين يشترطان قبليا الوعي النقابي المتجذر في صفوف المنتمين والمتعاطفين معه، وهو الأمر الذي سنوضح كيف يغيب في كثير من الحالات عن العديد من التعبيرات النقابية:
الحجة الأولى التي تثبت أزمة العمل النقابي عندنا تكمن في ما يسمى في أدبيات "الفكر النقابي" بالتعدد النقابي، الذي هو في أصله من طبيعة العمل النقابي في العديد من التجارب التاريخية، وهو التعدد الذي يطبعه، في حالتنا المغربية، الانقسام الذي صار بمثابة العائق أمام تماسك مطالب القوى العاملة وصلابة موقفها تجاه القضايا الأساسية، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى التوظيف "السلطوي" تارة، والتوظيف الحزبي أو الفئوي تارة أخرى. ولعل عدم اتفاق المركزيات النقابية على أجندة واضحة في التفاوض مع السلطة، ضمن لقاءات الحوار الاجتماعي أو المسيرات الاحتجاجية المشتركة، يعكس بوضوح هذه الأزمة؛
الحجة الثانية تعكسها بشكل واضح أزمة النضال المبدئي لدى العديد من المنضوين تحت لواء العمل النقابي، ذلك أن أيام الإضرابات التي تقوم بها النقابات لا تعدو أن تكون، من منظور الملاحظة السوسيولوجية، سوى أيام عطلة بالنسبة إلى العديد من المنضوين فيها، في حين أن الأصل في يوم الاضراب أنه يوم احتجاج ونضال وشل لحركة المؤسسات والتأثير على السير العادي لجميع المرافق العمومية، وحتى الخاصة، من أجل التحسيس بقضايا المنتمين إليها. كما أن الإكثار من الإضرابات، كمًّا وكيفا، قد أفقد الإضرابات عنصر الفجائية باعتبارها عنصرا أساسيا في العملية النضالية؛
الحجة الثالثة أن النقابات تطالب دائما بالزيادة في الأجور وتتناسى مطلب ربط الأجور بالأسعار، الأمر الذي يعكس، في كثير من الأحيان، ضبابية في سُلَّم أولويات العمل النقابي؛ فمعلوم أن الحكومات كلما أُرغِمت على الزيادة في الأجور إلا وأعقبتْ ذلك بزيادات في أسعار السلع والخدمات، إذ تأخذ بيسارها ما تقدمه بيمناها. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الزيادة في الأجر لا تهم غير الموظفين، وهم لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة من الشعب المغربي، بينما يكون التأثير في زيادة الأسعار والخدمات على جميع المغاربة؛ ولذلك نتساءل: أليس من الذكاء النقابي أن تكون الأولوية لمطلب تخفيض الأسعار الذي ينعكس على جميع المواطنين بدل مطلب الرفع من الأجور الذي يهم الموظفين فقط؟!
الحجة الرابعة أن العمل النقابي، في بعض الحالات، قد يعكس قيم الفساد المالي والسياسي، من سيادة للمحسوبية والرشوة، مما يضرب في العمق المبدئية النقابية؛
الحجة الخامسة تتمثل في أن غياب قانون ينظم الإضراب يدفع الكثير من الموظفين إلى المشاركة في الإضراب مع مختلف النقابات، مما يفيد منطق "توسيع" دائرة الفرصة والاستفادة، وهو ما يكرس أيضا أزمة الانتماء والمبدئية النقابية؛ فما معنى أن يضرب الموظف مع جميع النقابات؟ ألم يكن من الصائب أن يقتصر الموظف على الإضراب مع نقابته التي هو منتم إليها، على أساس أن هذه الأخيرة تدعو يوم الإضراب إلى أشكال احتجاجية، سواء في الشارع العام أو في أماكن العمل، مع ما يترتب عن عدم المشاركة في الاحتجاجات من جزاءات وتدابير كالإنذار والإقصاء؟ أخذا بعين الاعتبار أن الموظف الذي يضرب مع غير نقابته عليه أن يتحمل مسؤوليته ويتم الاقتطاع من أجره، مما يعيد الاعتبار إلى مفاهيم المسؤولية والالتزام النقابيين.
تلك، إذن، بعض الملاحظات الأولية والتساؤلات حول أزمة العمل النقابي في بلادنا والتي قد لا يتفق معنا فيها العديد من "النقابيين" لأن تقوية العمل النقابي وتوحيده، بحيث لا تبقى في الميدان إلا النقابات القوية والمبدئية، وتربية العامل على أساليب مبتكرة لتحقيق الأهداف، وتكريس المواطنة الإيجابية المبنية على الواجبات قبل الحقوق، وتقوية مرافق الدولة والنهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية...، هي إجراءات ضمن أخرى، إن وجدَت طريقها إلى التطبيق لساهمت في بناء الثقة المطلوبة بين المركزية النقابية وأفراد الطبقة العاملة، وهي الثقة التي تدفع العامل إلى العودة إلى أحضان العمل النقابي، حتى لا تظهر الإجراءات الحكومية غير الشعبية وكأنها مقبولة، نظر إلى ضعف التأطير النقابي وفقدان المصداقية؛ فلكي يحتج العامل لا بد له من إطار نقابي، ولكي يستطيع هذا الأخير تأطير الطبقة العاملة لا بد له من مصداقية، ولكي تتحصّل النقابات على المصداقية ينبغي أن تسلك إجراءات عاجلة لتقويم الذات.
لقد كتبنا العديد من المقالات حول مدى مصداقية الحكومة، وخلصنا فيها إلى مختلف جوانب النقص والسلبية المصاحِبة للعمل الحكومي. ولأن المناسبة شرط، فإننا نغتنم فرصة اليوم العالمي للعمال، لكي نعيد طرح مجموعة من الملاحظات حول أزمة العمل النقابي في المغرب، لكي نسائل الواقع النقابي حول قدرته التأطيرية ومدى إسهامه في التصدي للعجز الحكومي، أي أننا بصدد نقد ذاتي ينصبُّ على الهيكلية النقابية والمصداقية التي ينبغي أن تتوافر في المركزيات، حتى نتبيّن ما إذا كانت النقابات تتفهّم الإجراءات الحكومية أم إنها لا تثق في المركزيات النقابية التي تمثلها.
إن العودة إلى مناقشة ما يمكن وصفه ب"أزمة العمل النقابي" صادرة عن الاعتقاد الرّاسخ المتمثّل في أن ترهّل الدولة (الدولة بما هي كيان منفصل عن النظام السياسي) وانحطاط الجهاز البيروقراطي وضعف الفعل النقابي والسياسي والحقوقي... لن يفيد أيَّ إصلاحٍ ديمقراطيّ أو عملية سياسية أو مجتمعية؛ فالتغيير الحقيقي لا يمكن أن يَنتُجَ عن فعل نقابيّ غير مُمَأسس على ثقافة نقابية، والإصلاح المجتمعي لا يمكن أن ينهَض به مواطنٌ لا يقوم بمهامه وفق ما تقتضيه ثقافة المواطنة.
لا يختلف اثنان حول أهمية العمل النقابي باعتباره آلية أساسية في النضال السياسي والاجتماعي، وأيضا باعتباره رافعة للاحتجاج المدني المدافع عن قضايا الفئات الاجتماعية المختلفة. غير أن الاتفاق المبدئي حول هذه الأهمية لا يعفينا من التأشير على أن العمل النقابي إذا لم تتوفر شروطه ومفرداته الأساسية فقد يصير إلى عكس الأهداف النبيلة التي يقوم عليها؛ فالكثير من النقابات لا تعكس تطلعات الفئات الشعبية التي تمثلها، والكثير منها منخرطٌ في عمليات "تسييس" مفرط للعمل النضالي في سياق توازنات السلطة والقوى التمثيلية. وسنسعى هنا، وبشكل مختصر، إلى التعبير عن موقف مخالف لمختلف المواقف "الرومانسية" تجاه العمل النقابي.
والفرضية التي يتأسس عليها البناء الحجاجي هنا، أن الموقف والفعل النقابيين يشترطان قبليا الوعي النقابي المتجذر في صفوف المنتمين والمتعاطفين معه، وهو الأمر الذي سنوضح كيف يغيب في كثير من الحالات عن العديد من التعبيرات النقابية:
الحجة الأولى التي تثبت أزمة العمل النقابي عندنا تكمن في ما يسمى في أدبيات "الفكر النقابي" بالتعدد النقابي، الذي هو في أصله من طبيعة العمل النقابي في العديد من التجارب التاريخية، وهو التعدد الذي يطبعه، في حالتنا المغربية، الانقسام الذي صار بمثابة العائق أمام تماسك مطالب القوى العاملة وصلابة موقفها تجاه القضايا الأساسية، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى التوظيف "السلطوي" تارة، والتوظيف الحزبي أو الفئوي تارة أخرى. ولعل عدم اتفاق المركزيات النقابية على أجندة واضحة في التفاوض مع السلطة، ضمن لقاءات الحوار الاجتماعي أو المسيرات الاحتجاجية المشتركة، يعكس بوضوح هذه الأزمة؛
الحجة الثانية تعكسها بشكل واضح أزمة النضال المبدئي لدى العديد من المنضوين تحت لواء العمل النقابي، ذلك أن أيام الإضرابات التي تقوم بها النقابات لا تعدو أن تكون، من منظور الملاحظة السوسيولوجية، سوى أيام عطلة بالنسبة إلى العديد من المنضوين فيها، في حين أن الأصل في يوم الاضراب أنه يوم احتجاج ونضال وشل لحركة المؤسسات والتأثير على السير العادي لجميع المرافق العمومية، وحتى الخاصة، من أجل التحسيس بقضايا المنتمين إليها. كما أن الإكثار من الإضرابات، كمًّا وكيفا، قد أفقد الإضرابات عنصر الفجائية باعتبارها عنصرا أساسيا في العملية النضالية؛
الحجة الثالثة أن النقابات تطالب دائما بالزيادة في الأجور وتتناسى مطلب ربط الأجور بالأسعار، الأمر الذي يعكس، في كثير من الأحيان، ضبابية في سُلَّم أولويات العمل النقابي؛ فمعلوم أن الحكومات كلما أُرغِمت على الزيادة في الأجور إلا وأعقبتْ ذلك بزيادات في أسعار السلع والخدمات، إذ تأخذ بيسارها ما تقدمه بيمناها. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الزيادة في الأجر لا تهم غير الموظفين، وهم لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة من الشعب المغربي، بينما يكون التأثير في زيادة الأسعار والخدمات على جميع المغاربة؛ ولذلك نتساءل: أليس من الذكاء النقابي أن تكون الأولوية لمطلب تخفيض الأسعار الذي ينعكس على جميع المواطنين بدل مطلب الرفع من الأجور الذي يهم الموظفين فقط؟!
الحجة الرابعة أن العمل النقابي، في بعض الحالات، قد يعكس قيم الفساد المالي والسياسي، من سيادة للمحسوبية والرشوة، مما يضرب في العمق المبدئية النقابية؛
الحجة الخامسة تتمثل في أن غياب قانون ينظم الإضراب يدفع الكثير من الموظفين إلى المشاركة في الإضراب مع مختلف النقابات، مما يفيد منطق "توسيع" دائرة الفرصة والاستفادة، وهو ما يكرس أيضا أزمة الانتماء والمبدئية النقابية؛ فما معنى أن يضرب الموظف مع جميع النقابات؟ ألم يكن من الصائب أن يقتصر الموظف على الإضراب مع نقابته التي هو منتم إليها، على أساس أن هذه الأخيرة تدعو يوم الإضراب إلى أشكال احتجاجية، سواء في الشارع العام أو في أماكن العمل، مع ما يترتب عن عدم المشاركة في الاحتجاجات من جزاءات وتدابير كالإنذار والإقصاء؟ أخذا بعين الاعتبار أن الموظف الذي يضرب مع غير نقابته عليه أن يتحمل مسؤوليته ويتم الاقتطاع من أجره، مما يعيد الاعتبار إلى مفاهيم المسؤولية والالتزام النقابيين.
تلك، إذن، بعض الملاحظات الأولية والتساؤلات حول أزمة العمل النقابي في بلادنا والتي قد لا يتفق معنا فيها العديد من "النقابيين" لأن تقوية العمل النقابي وتوحيده، بحيث لا تبقى في الميدان إلا النقابات القوية والمبدئية، وتربية العامل على أساليب مبتكرة لتحقيق الأهداف، وتكريس المواطنة الإيجابية المبنية على الواجبات قبل الحقوق، وتقوية مرافق الدولة والنهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية...، هي إجراءات ضمن أخرى، إن وجدَت طريقها إلى التطبيق لساهمت في بناء الثقة المطلوبة بين المركزية النقابية وأفراد الطبقة العاملة، وهي الثقة التي تدفع العامل إلى العودة إلى أحضان العمل النقابي، حتى لا تظهر الإجراءات الحكومية غير الشعبية وكأنها مقبولة، نظر إلى ضعف التأطير النقابي وفقدان المصداقية؛ فلكي يحتج العامل لا بد له من إطار نقابي، ولكي يستطيع هذا الأخير تأطير الطبقة العاملة لا بد له من مصداقية، ولكي تتحصّل النقابات على المصداقية ينبغي أن تسلك إجراءات عاجلة لتقويم الذات.
0 التعليقات :
إرسال تعليق